رؤية حرة (2) : رسالة مفتوحة إلى الأستاذ قيس سعيّد رئيس الجمهورية … #سيّب_تونس

لتحميل النص الأصلي بالخط القيرواني للرسالة، يُرجى الضغط على هذا الرابط 👁#سيّب_تونس
لتحميل الرسالة في صيغة Word، يرجى الضغط على الرابط التالي 👁 #سيّب_تونس Word
لمشاهدة فيديو الحلقة الثانية من برنامج “رؤية حرة” المتضمن لتلاوة للرسالة، يرجى الضغط على الرابط التالي 👁 https://youtu.be/dDIe52m0hco
#سـيّـب_تـونـس
رسالة مفتوحة إلى الأستاذ قيس سعيّد رئيس الجمهورية
سيادة الرئيس
بعد تفكير طويل قررت كتابة مقال أوجّهه لك في شكل رسالة مفتوحة، وأنا ممّن يشاركونك الاعتقاد بأن حرية التفكير يجب أن تسبق حرية التعبير. لأن التعبير دون تفكير يكون مجرد هراء قد يتحول إلى ابتذال، كما نراه سائدا في شبكات التواصل الاجتماعي. وهي بالمناسبة فضاءات للتعبير وليست شبكات للاتصال العمومي كما يذهب إليه بعض القضاة لزجر الصحفيين والمدونين ونشطاء المجتمعين المدني والسياسي، جهلا منهم أو ربّما تهرّبا من استعمال المرسوم عدد 115، خوفا أو خدمةً لركاب الاستبداد.
سيادة الرئيس
سأنطلق في مخاطبتك بما هو عزيز على نفسي وصاحب فضل عليك، وأحدّثك هنا عن صاحبة الجلالة الصحافة، السلطة الرابعة والسلطة المضادة لكل السلط التي تعبّر عن الرأي العام. فالصحافة بالنسبة إليّ ليست فقط مهنة عشقتها وربطت بها مصيري بعدما حوّلت لها وجهتي إثر دراسات معمقة في فيزياء الحالة الصلبة والمادة المكثفة، بل هي نَفَسٌ ومصيرٌ ورسالةٌ وقضيةُ تحرّرٍ نذرتُ نفسي لها.
وفي هذا السياق هل أنا بحاجة لأن أحدثك عن انتهاك حرية الصحافة والتعبير بما يجعل ما تعرضَتْ له الصحافة في عهدك من محاصرة والصحفيون من سجن وتنكيل هي الأعلى في تاريخ الجمهورية، وهو ما أدى إلى تدحرج ترتيب تونس في مؤشر حرية الصحافة العالمية إلى أدنى مستوى له منذ 2011؟
أم في حاجة لتذكيرك بالخروقات الحاصلة في القضايا التي تم بمقتضاها الزج في السجون ظلما بزملائي شذى الحاج مبارك التي تواجه مرارة المرض والسجن والقهر بشجاعة ومحمد بوغلاب الذي فقد في السجن 70% من قدرته على الإبصار وخليفة القاسمي، ومراد الزغيدي وبرهان بسيّس وسنية الدهماني ونور الدين بوطار. أو برسام الغرافيتي رشاد طمبورة الذي خط رسما حائطيّا يعبّر عن رأيه في تصريح مُشين لك حول المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء أوافقه فيه تماما، فألقيتم به في السجن لقضاء عقوبة سجنية بعامين.
ولا يخفاك أنه مقابل تعهداتك السابقة باحترام الحقوق والحريات، قُمتَ بتقليص هوامش الحرية الهشة ومحاصرة الصحافة الحرة وترذيل الإعلام العمومي صوت التونسيين الذي توهمنا أنه تحرر لكنك أعدته إلى عاداته القديمة، وهو الذي كان بوابتك لقلوب التونسيين. فجعلته بوقا ذليلا لك تتصدر صورتك كامل الصفحات الأولى للجرائد وأخبارك نشرات الأنباء، فضلا عن نجاحك في إعادة الرهبة والخوف إلى النفوس. لتجعل صوتك الذي يصلنا عبر صفحة فايسبوك التابعة لرئاسة الجمهورية بعد انتصاف الليالي وفي الفُجور غالب الوقت هو الأوحد الأحد بعد أن ألجمت باقي مسؤولي دولتك عن الكلام، و كأنّ إرادتُك المنفردة هي قَدرُنا المحتوم الذي لا رادّ له، ولا عزاء للرافضين.
فمن يجرؤ اليوم على معارضتك أو نقدك دون خوف من التنكيل به والانتقام منه؟ أو على مطالبتك مثلا بكشف حقيقة هوَسك بالمؤامرات التي لا تغيب عن خطابك ومآلات التحقيق فيها، أومحاولات الاغتيال المزعومة التي ذكرت بنفسك إحداها في اجتماع لمجلس الوزراء وأشهدت عليها وزير داخليتك توفيق شرف الدين الذي تفاعل معك بالإيماء إيجابًا؟ وأخرى في مقر وزارة الداخلية أكدت أنها تستهدفك، حين تطارحت مع القادة الأمنيين موضوع المؤامرة المزعومة، في ظل غياب مريب لوزير داخليتك توفيق شرف الدين. أو قصة الطرد المسموم الذي توصلَتْ به مديرة ديوانك نادية عكاشة، ليظهر فيما بعد عدم صحة ذلك؟
من يجرؤ اليوم أُسوة بما يجري في الدول الديمقراطية وآخرها الولايات المتحدة الأمريكية مع الرئيس جو بايدن، على تناول وضعك الصحي المثير للقلق منذ خوض مديرة ديوانك نادية عكاشة فيه في إحدى التسجيلات المسربة. مع تواتر تصرفات انفعالية غير طبيعية صادرة عنك، لا يمكنها إلا أن تشعرنا بالحيرة والخوف على مصير بلادنا؟ وهو ما يُحتّم العمل على التوقي منه عند إجراء أي تعديل دستوري مستقبلا.
من يجرؤ اليوم على مساءلتك عن عدم التزامك بالحفاظ على إذاعة “شمس آف آم” المستقلة، التي تدخلت بنفسك لمنع بيعها مما أدى إلى وقف مسيرتها ووأدها؟
ومن يجرؤ على مساءلتك عن تمسكك بعدم نشر الاتفاقية المشتركة للصحفيين في الرائد الرسمي للبلاد التونسية الجريدة الرسمية للدولة، التي استصدرت فيها النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين قرارات ابتدائية واستئنافية وتعقيبية لفائدتها من المحكمة الإدارية؟ ثم لمصلحة من يتواصل حرمان الصحفيات والصحفيين التونسيين من حقهم المشروع في الحماية القانونية وفي تحسين ظروفهم المادية والمعنوية؟ ولمصلحة من بتم إبقاؤهم في حالة ضعف وتفقير تحت سيف الحاجة، إن لم يكن ذلك للتحكم فيهم عبر التحكم في لقمة عيشهم؟
ورغم ذلك كله مازال في إعلامنا الوطني نفَس يقاوم ويدافع عن رسالته النبيلة وعن استقلالية مهنته وتحررها. ومما يثلج الصدر أن أغلب منابر المقاومة الإعلامية اليوم يقودها شباب من الصحفيات والصحفيين باستبسال واقتدار رافضين التخلي عن حلمهم وعن مكتسباتهم في الحرية وتوقهم لها.
في المقابل، هل تجرؤ اليوم وأنت الذي كنت ضيفا قارًّا مبجّلا على مختلف المنابر الإعلامية قبل انتخابك رئيسا للجمهورية في 2019، على إجراء حوار صحفي مفتوح تواجه فيه صحفيين مستقلين، لمناقشة رصيدك منذ 2019 لغاية اليوم، أم أنك تخشى ذلك، وأنت الذي لا تنفك تردد على مسامعنا بأنك لا تخشى إلا الله؟
هل تجرؤ على إجراء حوار صحفي مباشر وحرّ معي؟ أرجّح أنك تخشى المواجهة.
سيادة الرئيس
أعبّر لك بداية عن إعجابي، بنجاحك المبهر في تحقيق مكسب ديمقراطي لتونس لم يسبقك إليه أحد. حيث ومن خلال تركيز دعائم حكمك الفردي، الذي ألغيت بموجبه دولة القانون لتنصّب نفسك حاكما أوحد للبلاد بلا حسيب ولا رقيب، سمحت بحصول عملية فرز تاريخي بين الديمقراطيين الحقيقيين الجديرين بحمل هذه الصفة وغيرهم من أدعياء الديمقراطية المخادعين والمزيفين. بين من يؤمن بدولة الحقوق والقانون والمؤسسات وبأن تونس قَدر كل التونسيين تجمعهم ولا تفرقهم، وبين من تطوع لخدمة الاستبداد ولعق أحذيته. بين من يؤمن بقيم الجمهورية ويدافع عن حقوق المواطنة لكل المواطنين ومنها الحق في المحاكمة العادلة بقطع النظر عن توجهاتهم السياسية وخلافاتهم واختلافاتهم، وبين الفاشيين والاستئصاليين والوصوليين الانتهازيين. تماما كما فسحت المجال أمام طيف من معارضيك الذين تصفهم بأعداء الأمس وخصماء الدهر، لتجاوز خلافاتهم السياسية والاتفاق على قاعدة مبدئية تنتصر للحقوق والحريات وتتصدى للمظالم، على الأقل حماية ودفاعا عن أنفسهم. وحوّلت بالتالي معادلة الاستقطاب السياسي في بلادنا من إسلاميين/حداثيين إلى ديمقراطيين/فاشيين.
تماما كإعجابي بنجاحك في تأجيج وإبراز أسوء ما كان مختبئا في دواخلنا من بذاءة وأحقاد وشماتة وحسد وطمع ووضاعة وتخلّف، لتفيقنا من غفوة الزهو بالماضي والاغترار بأننا الشعب العظيم وريث قرطاج الإمبراطورية، أرض الثلاثة آلاف سنة حضارة وأعظم الجمهوريات الديمقراطية في فترة ما قبل التأريخ.
ولـــــم يـكـن خافـيـا علـى كـل ذي وعـي وبصيرة أنـك بانتهاكك وخـرقك الجسيـم لـدستور البـلاد الشرعـي في 25 جويلية 2021، ستمضي لهدم مؤسسات الدولة وبناء نظام حكم فردي على مقاسك وهواك لا يمكن أن يؤدي بك إلا للاستبداد، وليس لدعم مناعة الدولة ولإصلاح وتقوية دعائم الحرية والتنمية والازدهار بترسيخ الإيجابيات في تجربة الانتقال الديمقراطي منذ 2011 وما سبقها من إنجازات منذ قيام الجمهورية، وتلافي الهنات والسلبيات.
فكان أمرك الفرعوني عدد 117 لسنة 2021 المتعلق بتدابير استثنائية لم تكن كذلك حيث دامت، الذي احتكرت بموجبه كافة سلطات الدولة؛ وصولا إلى دستورك الشخصي لسنة 2022 وما شابهُ من أخطاء بدائية ومن انقلاب حتى على الاستشارة الشعبية الالكترونية التي نظمتها خلال الثلاثي الأول من سنة 2022 ودعتك لتعديل الدستور الشرعي للبلاد لا لإلغائه؛ والمجالس الصورية التي أحدثتها لتمثيل الشعب وبلغت استهانتك بها حد تدخلك السافر في عمل مجلس النواب لوقف نظره في مقترحات القوانين التي لا تعجبك. ومنها وأنت الثوري الذي يعتبر التطبيع خيانة عظمى، قانونٌ لتجريم التطبيع تمّت مباشرةُ التصويت على عدد من فصوله. مهددا النواب بالملاحقة القضائية بتهمة الاعتداء على أمن الدولة الخارجي إذا ما أصروا على الاستمرار في النظر فيه. وذلك دون أن تمكنهم من حقهم في إصداره، على أن تمارس لاحقا حقك في رفضه وردّه لهم استنادا لدستورك الذي صغته وكتبته لنفسك بخط يدك.
كما ألغيت المجلس الأعلى للقضاء بجعله كيانا مشلولا، كي تبيح لنفسك التصرف المطلق في المؤسسة القضائية التي حولتها من سلطة مستقلة رغم هناتها إلى وظيفة خاضعة وذلول تأتمر بأمرك، وتُسيّر بمذكرات العمل التي تصدرها وزيرة لاعدلك. ومن لم يحكم من القضاة بهواك في سجن منتقديك ومعارضيك وخصومك السياسيين الذين تعتبرهم خونة ومجرمين، تعتبره شريكا لهم وينزل به عقابك لينال من التنكيل ما ينالونه بسكّين جاهز للذبح وضعته على رقابهم. ومنهم على سبيل الذكر لا الحصر، أحد قضاة التحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب الذي تم تغييره ووقفه عن العمل وإحالته على مجلس التأديب لرفته، فقط لأنه قرر مواصلة التحقيق مع متهم وهو بحالة سراح دون أن يصدر فيه بطاقة إيداع في السجن تنفيذا لإرادتك التي عبّرت عنها جهارا. فجعلته عِبرةً ومصدر ترهيب لكل قاض يرفض تنفيذ التعليمات.
ويكفي في هذا المجال الإشارة إلى القضاة الـ47 الذين عزلتهم ظلما ورفضت إمعانا في التنكيل بهم وأنت المؤتمن على سيادة القانون وتنفيذه، احترام وتنفيذ قرارات المحكمة الإدارية الصادرة لفائدتهم باسم الشعب الذي لا تنفك تصفه بالعظيم وتتحدث وتقرر باسم إرادته. جاعلا نفسك قدوة لمنظوريك في انتهاك القانون وتشليك القضاء وعدم احترام أحكامه.
سيادة الرئيس
لست بحاجة لتذكيرك بالخروقات الحاصلة في المحاكمات السياسية الكبرى مثل قضية المؤامرة المزعومة التي تعتبر أكبر فضيحة قضائية وسياسية في تاريخ بلادنا، والتي توجّهها وتتابعها بصريح ذِكرك خلال زيارتك الليلية لمقر وزارة الداخلية مساء 13 فيفري 2023، وهي في تقديري ليست أكثر من ضربة استباقية قمت بها لمنعهم من التوحد لأنه لن يمكنك الاستمرار في الانفراد بالحكم إلا في ظل تشتتهم وتواصل الفرقة بينهم. وكما قال طرفة بن العبد: إذا خلا لكِ الجوُّ فبيضي واصْفِري. دون أن أحتاج كذلك للتعريج على الأحكام السجنية “الأسطورية” الصادرة ضدهم، والتي لم تشهد لها حتى محاكمات نورمبرغ للقادة النازيين إثر هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية مثيلا.
أو القضية التي تم اختلاقها لتبرير اعتقال الدكتور منذر الونيسي الرئيس السابق بالنيابة لحركة النهضة، وقطع الطريق أمامه لإصلاح الحركة وتصويب مسارها حسب قناعاته، رغم ما كلّفه ذلك من حرمانٍ لمئات طلبة كلية الطب من الاستفادة من تخصصه وخبرته، وحرم آلاف المرضى من فقراء هذا الشعب المنكوب من معالجته لهم في مستشفى شارل نيكول العمومي. بما يشير حسب رأيي إلى أن الاعتقال التعسفي للدكتور منذر الونيسي مرتبط بوجود قرار بتصفية هذه الحركة نهائيا، وهو ما يؤكده الغلق التعسفي وغير القانوني لكافة مقراتها، ثم الاعتقال التعسفي لرئيسها بالنيابة العجمي الوريمي الذي خلَفه ويعتبر أبرز وجوهها اعتدالا وأكثرها احتراما في صفوف مختلف أطياف المعارضة.
أو بالعمل الإنساني الذي حولتَه إلى عمل إجرامي وناشطات ونشطاء المجتمع المدني الذين اعتقلتهم ظلما وعدوانا بسبب جهودهم النبيلة الرائعة لتقديم الدعم للمهاجرين من جنوب الصحراء، فقط لتبرير مزاعمك بوجود مؤامرة دولية تستهدف تغيير هوية البلاد وتركيبتها الديمغرافية.
أم هل عليّ تذكيرك بمحنة القاضي الشجاع بشير العكرمي الذي شهدت له مؤسسات دولية بالكفاءة العالية في تناوله لملفات قضايا الإرهاب التي أدارها، ويقبع اليوم في السجن في إطار تصفية حسابات سياسية إيديولوجية خسيسة أغمضتَ عينيك عنها. وغير ذلك من المظالم الصارخة التي لا يمكنني الخوض في تفاصيلها لعدم حصولي على ملفاتها، مثل قضية وزير الداخلية ورئيس الحكومة الأسبق علي العريّض أو الوزير الأسبق مهدي بن غربية أو رئيس بلدية الزهراء السابق الشاب المحبوب وباهر النجاح ريّان الحمزاوي.
لكني سأكتفي بالإشارة إلى ما صاحب تلك الخروقات من انهيار قيمي وأخلاقي، عندما تُحرَم رضيعة من صدر أمها الناشطة الحقوقية شريفة الرياحي التي تم اعتقالها مع مجموعة من الناشطات والنشطاء في مجال إغاثة اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين من بينهم الرئيس السابق لبلدية سوسة محمد إقبال خالد دون وجه حق، عوض تكريمهم. أو تُحرَم المعتقلة السياسية الأم عبير موسي من مقابلة مباشرة لابنتها الصغرى، رغم حصولها على إذن قضائي في ذلك. أو عندما يدخل المعتقل السياسي غازي الشواشي في إضراب جوع، احتجاجا على حرمانه من مقابلة مباشرة لزوجته وحفيدته. ولعلمك وإن كنتَ في غير حاجة للتذكير، بأنهم وصحبهم مساجينُ ومعتقلون سياسيون، شاءت وزيرة لاعدلك التي تنفي وجود مساجين ومعتقلين سياسيين في بلادنا أم أبت. أفبعد هذا العارِ عارْ، وبعد هذا السقوطِ سقوطْ، وبعد هذا الإجرام إجرام؟
وللأسف الشديد فقد ساعدك في تسلطك على القضاء وترذيلك له، واستباحتك للمحاماة التونسية وإهانتك لها وتجريدك لها من هيبتها ومن حقوقها القانونية والدستورية المكتسبة والدوس على كرامة القضاة والمحامين، تواطؤ هيئة المحامين التي تخلت عن القيام بواجبها المهني والأخلاقي وعن نصرة القضاة المضطهدين والمهددين الذين لجأوا إليها أو يرون فيها ملجأ إذا ما طالهم تسلّط الإستبداد وتنكيله، وفرّطت في أهم المكاسب الدستورية التي تحققت للمحامين بفضل الثورة.
سيادة الرئيس
مع وضع يدك على القضاء وتحكمك فيه، استشرى الظلم وأصبحت السجون مأوى ليس فقط للمجرمين بل وكذلك للصحفيين والمدونين ونشطاء المجتمعين المدني والسياسي. فتم عمليا إلغاء المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المتعلق بحرية الصحافة والتعبير، وتعويضه بمرسومك المخادع سيء الذكر عدد 54، وبقانون مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال ومجلة الاتصالات والمجلة الجزائية حتى فيما لا نظر لها فيه مثل الفصل 67 المتعلق بارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية.
وبالمناسبة، هل تعلم بأن “الأمر الموحش” هو الفعل اللاأخلاقــــي
المنغرس في الرذيلة ويتمثل عندنا في تمرير وسطى اليد على مؤخرة شخص ما انطلاقا من دُبُره (يُقال فُلان من وَحْش النّاس: أي من أراذلهم)، وهو أبلغ وأسوأ من الإهانة؟ لذا تم استعماله كمصطلح لترجمة العبارة الفرنسية Offense بدلا من عبارة “إهانة” خلال تحرير مشروع المجلة الجنائية (الجزائية) التونسية. وأن من يستعمله لعقاب من ينتقد رئيس الدولة، إنما يسيء لرئيس الدولة ذاته ويهينه ويجعله محلّ تهكّم وسخرية؟
وفي حين كنا نأمل بما هو متوسم فيك من الرفعة والفضيلة، أن تستثمر سلطتك لفرض أخلاقيات للعمل السياسي تسمو به عن الممارسات الوضيعة التي انجر لها واستُثمر فيها، والتصدي لجحافل الذباب الالكتروني المنحطة التي تستعملها الأطراف السياسية المختلفة لسحل خصومها، لكن للأسف لم يختلف سلوكك عمّن سبقوك. ونتابع اليوم كيف تقوم جحافل الذباب الزقفوني المناصرة لك بسحل خصومك ومعارضيك والصحفيين المستقلين والقضاة والفنانين والنيل من أعراضهم وتشويه سمعتهم، في ظل الحصانة الكاملة من أي تتبع قضائي. ولست بحاجة لتذكيرك بفضيحة مديرة ديوانك نادية عكاشة التي كشف تسجيل مسرّب عن تواطؤها مع هذه المجموعات القذرة لتشويه سمعة غير المرْضيّ عنهم بما في ذلك مسؤولون في نظامك. وفي حين كنا ننتظر منك بعد انفضاح أمرها إقالتها ومحاسبتها، كافأتها بأن جعلتها ترافقك خلال زيارتك الرسمية لقطر في نوفمبر 2020 أين حظيت بكل التكريم والتبجيل. وبلغ الأمر في نظام علوّك الشاهق درجة أن الأحكام القضائية التي تصدر في القضايا الخطيرة والكبرى، أصبح الإعلام بها يتم عن طريق هذه الشبكات المناصرة لك قبل القضاء وقبل أن يعلم بها المحامون النائبون في القضية. فلو كنت تعلم ذلك وتتجاهله فتلك مصيبة، أما إن كنت لا تعلم فالمصيبةُ أعظمُ.
كما أعتقد بأن امتناعك المقصود عن إقامة المحكمة الدستورية إلى غاية اليوم، هدفه سعيك لتحصين قراراتك وترسيخ علويتها على الدستور وعدم السماح لأية جهة بمناقشتها أو الاعتراض عليها. فضلا وحسب ما بدأ يروّج له أنصارك، عن التمهيد لتجديد ترشحك لعهدة رئاسية ثالثة لا حق لك فيها في ظل تشتت خصومك ومنافسيك وتفرّقهم الأخرق والمرَضيّ وعجزهم عن التوحد من أجل الدفاع المشترك عن الحد الأدنى من حقوقهم كمواطنين، حتى يكون ترشحك غير خاضع لأية رقابة دستورية. ولن يكون ذاك منك مستبعدا وأنت الذي أعلنت بخصوص الانتخابات الرئاسية خلال زيارتك لروضة الزعيم الحبيب بورقيبة رحمه الله بمناسبة إحياء ذكرى وفاته في 6 أفريل 2024، بأنها “قضية بقاء أو فناء”. فبقاءُ من تقصد؟ وفناءُ من؟
هذا دونًا عن استغلال حصانتك الدستورية لمواصلة التفصي من محاسبتك على الجرائم الانتخابية التي نسبتها لك محكمة المحاسبات خلال الانتخابات الرئاسية لسنة 2019، والتي جرى تعليق النظر فيها بسبب تلك الحصانة.
ولا أستبعد أن تخرج جوقة من أنصارك بهتافات من قبيل “الشعب يريد قيس سعيّد من جديد”، أو “Nous voulons Kaïs Saïed Président 2029-2034″، لتتفاعل معها متمنِّعًا وأنت الراغبُ في تقديري حدّ الهَوَس، بالتعبير عن عدم رغبتك في تجديد ترشحك لرئاسة الجمهورية. لكن طالما أن تلك هي إرادة الشعب والشعب يريد، فأنت ملزم رغما عنك بالرضوخ لإرادته اضطرارا وليس اختيارا. ولا أستبعد أيضا أن يلقى الذين يتجرأون على منافستك، نفس مصير الذين سبقوهم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لسنة 2024، وما حصل مع المترشح العياشي الزمال يحدّث عن نفسه بنفسه ويغني عن أي تعليق. وفي ظل غياب المحكمة الدستورية، وقضاء ذلول تابع يمكنك أن تفعل ما تشاء.
علما بأن غياب المحكمة الدستورية من شأنه أن يدخل البلاد في حالة من الفتنة والفوضى التي قد تنتهي بحرب أهلية في صورة حصول شغور في موقع رئاسة الجمهورية. نظرا لعدم وجود بديل دستوري يمتلك شرعية الدستور الجاري به العمل لإدارة المرحلة الانتقالية، ولعدم قبول شرائح واسعة من التونسيين تسليم السلطة الانتقالية طبقًا لدستور سنة 2014، لرئيس البرلمان المنحلّ المعتقل حاليا راشد الغنوشي.
وبقطع النظر عن ذلك كله مما لا أتمنى حصوله لبلادنا، تعلم جيدا وأنت القارئ الجيد للتاريخ، بأن القانون عقد اجتماعي وتعاقد بين الحاكم والمحكومين. وأن الخروج عن القانون ونفيه، مثلما يعطي للحاكم سلطة زجر المارقين، فإنه يعطي أيضا للمحكومين مشروعية التمرد على الحاكم الظالم الذي يضطهدهم.
سيادة الرئيس
في تقديري أنك فشلت في إدارة البلاد ليكون الفشل والشعبوية هما العنوانان الرئيسيان لمرحلة حكمك. وما حديثك عن المؤامرات التي تستهدفك أو الإدارة التي تعرقلك إلا غطاء أحمق لتبرير فشلك وعجزك عن إيجاد حلول لمشاكل البلاد، ورغم ذلك تصر على تطبيق نظرية الحصان الميّت فينا. وتكفي الإشارة في هذا الإطار لفشلك حتى في تنظيم مسيرات ووقفات مساندة لك ذات قيمة وأثر، رغم كل الإمكانيات التي تم وضعها على ذمتها للغرض والإعداد المسبق لخرجاتك الليلية. وفشلك الذريع في اختيار وزرائك ومعاونيك الذي بلغ درجة المهزلة أحيانًا؛ ولتفاقم معاناة التونسيين والتدهور الكبير الحاصل في مقدرتهم الشرائية بسبب غلاء المعيشة، وفشلك في إدارة ملف الهجرة غير النظامية سواء المتعلق منها بالمهاجرين التونسيين الهاربين من بلادهم “الهايلة” التي فشلت في توفير الحد الأدنى من الكرامة والعيش الكريم لهم والمرحّلين من أوروبا قسرًا، أو بالمهاجرين من جنوب الصحراء الذين قدموا إلى بلادنا يدفعهم حُلمهم في الانتقال إلى إيطاليا، ليقع اتهامهم باطلا بأنهم إنما جاؤوا في إطار مؤامرة تهدف إلى تغيير هوية تونس وتركيبتها الديمغرافية؛ أو إلى العزلة الدولية التي أصبحت تعاني منها تونس في عهدك، فضلا عن مسؤوليتك في تدهور العلاقات مع المملكة المغربية الشقيقة التي سحبت سفيرها من بلادنا احتجاجا على موقفك المناوئ لها والمتعارض مع مبدإ اتحاد مغربنا العربي الكبير، وهي التي كانت عبر كل تاريخها سندًا متينا لبلادنا؛ لتبيُّن ذلك.
عندما نتابع المحاكمات السياسية الجارية في عهدك يمكننا أن نتبيّن بوضوح ليس فقط حجم ظلمها، بل والأنكى من ذلك مدى سُخفها وابتذالها. فحتى جرائم خطيرة كالإرهاب وتبييض الأموال المرتبط عادة بتجارة المخدرات والسلاح والرقيق الأبيض، ابتذلتموها وقمتم بتحويلها هي والقضاة الذين يبتّون فيها إلى أضحوكة ومصدر للتندّر والاستهزاء. فالمؤامرة الانقلابية “الخطيرة” التي أقحمتم فيها كمال اللطيّف وبرنار هنري ليفي لتضفوا عليها نكهة تجعلها مستساغة لدى الرعيّة ومبهرةً لها، استهدفتَ من خلالها تصفية خصومك السياسيين وتبرير اعتقال وتتبع عشرات القادة السياسيين ونشطاء المجتمع المدني، انبنت أساسا على شهادة سخيفة مثيرة للتندّر والسخرية لشاهدين محجوبيْ الهوية XX وXXX (تمّ التعرف عليهم) دون أية أفعال أو أدلة مادية تؤكدها. ورئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي التي قصدت إدارة رئاسة الجمهورية لإبلاغها عريضة لفائدة المحكمة الإدارية، يتم اعتقالها وتوجيه تهم إرهابية لها وكأنها هاجمت قصرك بميليشيا مسلحة بهدف اغتيالك وتنصيب نفسها حاكمة للبلاد مكانك.
هل بلغتك أخبار محكمة التفتيش التي انتصبت لمحاكمة برهان بسيّس على أسلوب إدارته لحواراته الإعلامية والزج به في السجن بسبب العبارات التي يستعملها في التعليق عل خطابك والتعبير عن مساندته لزملائه الذين تنكل بهم؟ هل بلغتك أخبار إيداع مراد الزغيدي أيقونة صحافتنا الوطنية، لاتهامه بتبييض الأموال في إشكالية ضريبية يمكن حلها بكل بساطة مع القباضة المالية؟ لا أظنك تهتم لذلك، الأهم أنهما في السجن، وفي التنكيل بهما عِبرة لكل من تسوّل له نفسه من الصحفيين القيام بعمله بشكل حر ومستقل.
تصوّر يا صاحب العلوّ الشاهق وزاعم السير على خطى الخليفة الراشد العادل عمر الفاروق، أنه تمّت إحالتي بمناسبة عملي في برنامج l’Emission impossible بإذاعة “إي آف آم”، على الدائرة الجنائية المختصة في قضايا الإرهاب لمحاكمتي بتهم إرهابية هي حسب قرار ختم البحث: تكوين تنظيم ووفاق إرهابي على علاقة بالجرائم الإرهابية وربط اتصالات مع أعوان دولة أجنبية الغرض منها الإضرار بحالة البلاد التونسية من الناحية الدبلوماسية… وهي جرائم توفرت أركانها المادية والمعنوية حسب حاكم التحقيق وممثل النيابة العمومية التي تحولت إلى نيابتك الشخصية التعزيرية، لأنه: “ثبت (لديهما) بمظروفات الملف أن المظنون فيه زياد الهاني كان يتواصل مع المظنون فيها شهرزاد عكاشة (صحفية) وتحادث معها في محتوى التسجيلات الصوتية المسربة كما توصل عبر بريده الالكتروني نسخة رقمية من أبحاث تعلقت بإحدى القضايا المنشورة بالبلاد التونسية (قضية الصحفية شذى الحاج مبارك)”. وذلك إثر تناولي في الإذاعة لموضوع تسريب تسجيل صوتي بين الصحفية شهرزاد عكاشة ورئيس حركة النهضة بالنيابة الدكتور منذر الونيسي.. أفلا يستحون؟ يا للعار…
والغريب في الأمر أنه عندما ينبّهك أصدقاء تونس وشركاؤها وحتى منظمة الأمم المتحدة للتجاوزات التي يرتكبها نظامك وتتعارض مع الالتزامات الدولية لبلادنا وتعهداتها عسى تضع حدا لها، تعتبر ذلك تدخلا في سيادتنا الوطنية. وَيْكَأَنَّنَا لا نعيش في دولة هي جزء من المنتظم الأممي مثلما لها حقوق فيه عليها واجبات تجاهه يتوجب عليها الالتزام بها واحترامها، وإنما في ضيعة أنت صاحبها ونحن عبيدك فيها.
أوَ لم يكن أحرى بك أن تضع حدا للتجاوزات التي تمّت الإشارة لها عوض التنديد بطرحها وبمن أثارها؟ وإذا ما كانت مواقف هذه الأطراف تمثل فعلا تدخلا سافرا في سيادتنا الوطنية، فلِم لم تقم من منطلق هذه السيادة التي تتحدث عنها باتخاذ إجراءات عقابية ضدها، وليس الاكتفاء بمجرد محادثة للاستهلاك الداخلي مع وزيرك للخارجية دون حتى استدعاء سفراء الدول المعنية لإبلاغهم الاحتجاج على حكوماتهم؟
وعوض أن تستعمل عبارة “السيادة الوطنية” النبيلة كسلاح تشهره في وجه كل من يطرح موضوع انتهاكك لحقوق الإنسان، أولى بك أن تستعملها فيما ينفع بلادنا ويحفظ مصالحها ضد أي انتهاك. ومن ذلك ما تتسبب فيه جارتنا الجزائر لبلادنا من أضرار فلاحية واقتصادية واجتماعية فادحة بسبب السدود الحدودية التي تقيمها على وديان مشتركة بيننا وتخضع بالتالي للقانون الدولي للمياه دون أي تنسيق أو تشاور معنا. وكان زميلي الصحفي هادي الرداوي من قفصة قد بادر بطرح هذه المشكلة منذ 2011 عندما تعرض لموضوع انهيار الفلاحة وهجرة السكان في منطقة الجنوب الغربي بسبب جفاف وادي بيّـاش المارّ بقفصة قادما من الجزائر، نتيجة إقامة سدّ الوسرة عليه من قبل الجانب الجزائري الذي استفاد منه لخلق الثروة بإحياء فلاحته وإنعاش اقتصاده وتثبيت مواطنيه الساكنين في تلك الجهة على حسابنا ودون أية مراعاة لحقوقنا ومصالحنا.
وهو نفس ما أكد خطورته على بلادنا، موقع الكتيبة في مقال للزميلة الصحفية سماح غرس الله بعنوان: “المناطق الحدودية التونسية : أزمة جفاف عمّقها استنزاف الجزائر للموارد المائية المشتركة”، تمّ نشره بتاريخ 28 أفريل 2024، أي خلال عهدك الزاهر. فماذا فعلت لتلافي ذلك ووضع حد لانتهاك حقوقنا المائية الوطنية التي نحن في أشد الحاجة إليها؟ أم أن السيادة الوطنية بالنسبة لك هي فقط حقك في الاستفراد بمعارضي سياستك للتنكيل بهم؟
قيادتك للبلاد ثبت فشلها، وعوض الأمل في الإنقاذ كتمتَ أنفاسها وحولتها إلى هيكل محنّط وصورة جامدة وباهتة. وأصبحتَ بالتالي في تقديري تمثّل عبئا وخطرًا عليها وتهديدا لها. ولتوفر لنفسك مرجعية للتقييم، لن أدعوك لاعتماد سلوك رئيس دولة ديمقراطية غربية في المقارنة، بل إلى أسلوب شقيقنا وجارنا الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون في إدارة حُكم بلاده وما يتميز به من الحكمة والرصانة والمهابة النابعة من قوة هادئة. أنظر للثورة الحقيقية والهادئة التي ينجزها في بلاده في مختلف المجالات بقطع النظر عن الانتهاكات الحقوقية المنسوبة لنظامه، وقارنها بحربك التحريرية الدونكيشوتية. أنظر لأسلوبه الراقي واللائق في التعامل مع مجالسيه سواء في اجتماعات مجلس الوزراء أو مجلس الأمن القومي ومدى احترامه لهم، وقارن ذلك بأسلوبك.
لهذا السبب أدعوك إلى الوقوف وقفة صدق أمام مرآة نفسك. أُدرك تماما وأنت الذي ترى نفسك مبعوثا للعناية الإلاهية، أنك لن تستقيل لأن السلطة بالنسبة لك قضية بقاء أو فناء وإفلات من المحاسبة. وأقول لك باسم العقل ولمصلحة البلاد: سيّب_تونس.
سيادة الرئيس
بخطابك دائم التشنج والتوتيري الذي تغيب عنه الابتسامة المطمئنـــة
للنفوس والباعثة للأمل، ويكفي أن تراجع عديد الفيديووات التي تظهر فيها لتتأكد من ذلك، نجحت في تقسيم المجتمع وإثارة نقمة شرائح هامة منه تؤمن بك وبنزاهتك وصدقك، على معارضيك ومخالفيك في الرأي الذين لا تنفك تصفهم بالحشرات والمزابل والقمامة والخلايا السرطانية والخونة والمجرمين والإرهابيين وتتهمهم بالتنكيل بالشعب والعمل على إسقاط الدولة. فضلا عن رجال الأعمال الذين يتعرض بعضهم للابتزاز والسلب بمطالبتهم إما بالدفع أو بالسجن. إذ تم وضعهم جميعا في سلة واحدة، موصومين بالنهب وسرقة المال العام والاستيلاء على أموال الشعب. فأيّ مآل تتصوره لدولة تبنى سياستها على بذاءة الخطاب الرسمي وزرع الفتنة والفُرقة والأحقاد بين أبنائها وعلى ترذيل نُخبها؟ وهل تستبعد أن يقوم الموتورون والمضطربون سلوكيا ونفسيا من أنصارك بالاعتداء على من لا تنفك تصفهم بالخونة والمجرمين وقتلهم؟ ومن سيتحمل مسؤولية ذلك حينئذ؟ أم أن الخطاب الرسمي سيعتبر ذلك مجرد تجاوزات فردية، رغم تحملك مسؤولية التحريض عليها؟
لذا أدعوك بكل لطف إلى التخلّي عن خطابك المتشنج وللتواضع، مذكّرًا إيّاك بقول الشاعر:
ملأى السنابلِ تنحني بتواضعٍ والفارغاتُ رؤوسهنَّ شوامخُ
ثم أنك لا تفتأ تتحدث عن حرب تحريرية وعن مشروع جديد للديمقراطية القاعدية تتوجه به للإنسانية، دون أن تكتب فيه نصّا واحدا مثلما يفعل الفلاسفة والمفكرون حتى يتسنى لنا الاطلاع عليه ومناقشته والاستفادة منه لتطوير أفكارنا التقليدية المستمدة من المواثيق الدولية والتجارب الإنسانية المختلفة. وحتى لو اعتبرناك زعيما مُلهمًا، لا نجد حولك مفكرين وحواريين يدافعون عن فكرك ويبشرون به. إلى درجة أننا في عملنا الصحفي نشقى لإيجاد شخص يحظى بحد أدنى من الاحترام يمكنه التعبير عن توجهاتك والدفاع عن خياراتك؟ أكثر من ذلك، لِتعلمْ أني شخصيا أشعر بالأسى للوضعية المهينة التي يبدو فيها وزراؤك خلال نقل اجتماعاتك بهم. ثم يخرج علينا من يهلل باسترجاع الدولة لهيبتها، هيبة تجلّت في أحطِّ مظاهرها خلال الجنازة المهينة للرئيس الأسبق فؤاد المبزع رحمه الله التي تخلّفتَ عن حضورها.. وكأني بك في إطلالاتك التي تحاكي بها انتفاخا صولات الأسود، تنتشي حدّ الثمالة بقول الشاعر بن هانئ الأندلسي في قصيدته المدحيّة للمعز لدين الله الفاطمي:
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ
و كأنّما أنتَ النـبيُّ محمّــــــــدٌ وكأنّمـــــــا أنصــــــاركَ الأنــــصارُ
والحال أنك لست في مقام المعز لدين الله الفاطمي باني القاهرة، ولا في مقام النبيّ محمّدٍ، ولا أنصارك في مقام أنصاره.
في تقديري أنه واهمٌ من يتصور القدرة على مصادرة الحريات وإهانة قادة الرأي في البلاد المعتقلين بوضع الأصفاد في أيديهم، كأحمد صواب الذي أصبح رمزا للوحدة الوطنية من أجل الدفاع عن الحقوق والحريات، أو محمد بوغلاب وسنية الدهماني وعصام الشابي وغازي الشواشي وعبد الحميد الجلاصي ورضا بلحاج وجوهر بن مبارك وغيرهم؛ فهي وسام شرف يوشح صدورهم ومسيرتهم، بما سيحفظه التاريخ لهم. وسيظل للكلمة الحرة، كلمة الحق التي تتحدى البطش والترهيب صُقورها وفُرسانها.
كما ستظل أنت يا أستاذ قيس سعيّد حسب رأيي حدثًا عابرًا صنعته المصادفة التاريخية، ودعيًّا تسلط على ثورة لا علاقة له بها البتة، ليجعل نفسه متحدثا ومقرّرا باسمها في نفس الوقت الذي يلغي فيه مقوماتها، بما في ذلك الحريات التي بشّرت بها وتاريخُها الرمزي 14 جانفي 2011 يوم تجمّع الأحرار الذين لم تكن من بينهم، أمام مبنى وزارة الداخلية الرهيب متحدّين بطشها وداعين لإسقاط النظام. فضلا عن إلغائك للدستور الجماعي المنبثق عنها الذي خنت قَسمك باحترامه، وانقلبت عليه وهو الذي أوصلك إلى الرئاسة وجعلك على سُدة الحكم، وأنت المواطن البسيط ورجل القانون الذي كنت تنأى بنفسك عن كل ما له صلة بالحريات وبالشأن الحقوقي وتمشي في الشوارع سائلا الله الأمان والسلامة.
بل بلغ بك الأمر بعد أن قمت بتجميد عمل البرلمان في اعتداء صارخ على الفصل 80 من الدستور، بافتعال ملاحقة قضائية لنوابه الذين تنادوا للاجتماع، ويظلون شرعيين رغم كل الزلّات والفوضى التي أحدثها بعضهم، والتنكيل بالمقيمين منهم في الخارج باحتجازهم ومنعهم من السفر للالتحاق بأُسرهم واحتضان أبنائهم.
أقول لك قولي هذا مقالَ صدقٍ من قَؤولٍ فصيحِ، عسى ينير بصيرتك وتتعظ به. وسعيدٌ من اتعظ بغيره ومن غيره. فأنا لست معارضا لك ينازعك سلطتك، لأن المعارضة شأن المشتغلين بالسياسة ولستُ منهم. ولا يهمني بقاؤك في السلطة أو رحيلك أو ترحيلك عنها، إذ قد نُبتلى بشعبويّ أفشل منك. لأننا كشعب نحن أصل المشكلة وأنتم نتاجها. وهي مستمدة من ثقافة دفينة مازالت تفعل فعلها فينا، ذلك أننا نحن من نصنع الطغاة الذين لا يفتأون ينادوننا بشعبهم العظيم لتنويمنا. ونحن من ننحني لنجعلهم بتخاذلنا يركبون ظهورنا ويسيّروننا سير البهائم.
فالأهم عندي كمواطن سيّدٍ وليس كفردٍ في رعيّةٍ خانعة، وكصحفيٍّ يتشرّف ويعتزُّ بأن يكون أحد صقور الصحافة التونسية، هو الثبات في القيام بواجبي مهما كانت التحديات ورغم كل حملات الإساءة والتشويه المُشينة التي أتعرض لها. وأن أكون قُدوة لزميلاتي وزملائي الصحفيين الشبان منهم خاصة وجسرا يساعدهم على العبور النهائي إلى ضفة الحرية وجعل قوسها غير قابل للغلق مستقبلا، كما حصل بعد 1981 و1987. وسأقف تجاه من سَيَليك إذا ظل في العمر بقيّة، نفس الوقفة التي أقفها الآن تجاهك ووقَفتُها تجاه كل من سبقوك قبل 2011 وبعده. تماما كما سأكون غدًا أول المدافعين عن حقوقك القانونية كمواطن تونسي ومنها حقك في المحاكمة العادلة، وفي أن تحضر محاكمتك في هيئة لائقة تحفظ كرامتك وهيبة المحكمة وليس بـ”شلاكة”؛ طبعا إذا صرت موضوع ملاحقة قضائية كمن سبقوك في لعنة الحكم، وهو ما يبدو أن الغرور وخمرة السلطة وشَبَقَها جعلاك تسقطه من حسابك. ذلك أن المبادئ عندي لا تتجزأ.
فأنا مواطنٌ حُرٌّ وفَنَنٌ من شجرة الحرية وغرسُ الجمهورية والدولة المدنية المستقلة وطلعُها، ناصريٌّ وحدويُّ الفكر والهوى وبورﭬيبيُّ المنهج وإنسانيُّ العقيدة، يُعتبر صمتي تجاه ما يحصل من انتهاكات وضرب للحقوق والحريات خيانة. وصحفي حامل لرسالة نبيلة، هدفها إنارة الرأي العام وتجذير الوعي والثقافة الديمقراطية وإيقاظ الضمائر. رسالةٌ مطلبها الحقيقةُ والعِزّة والكرامة غايتها، والحرية نَفَسُها وأداتها وسلاحها.
وضابط احتياط سابق بجيشنا الوطني قرّة أعين التونسيين وتاج رؤوسهم، تعلمت فيه أن الحياة عقيدة وجهاد، وأقسمت فيه بشرفي وبسلاحي أن أكون فداءً للوطن بروحي ودمي. وأظل على ذمته إلى آخر نَفَس في صدري. وما الحياةُ إلاّ وقفةَ عِزٍّ وشُموخٍ وإباء.
وأذكّرك يا سيادة الرئيس بأن كرسي الحكم الذي أحنى لك الرقاب الخانعة وتعتلي شهوته اليوم، لو دام لغيرك لما آل إليك. وبأن الدخان قد يحجب النور طورًا، لكن شمس الحق والعدل والحرية لا تغيب..
تحيا تونس..
حُرّر بتونس في 3-28 ماي 2025
زياد الهاني / صحفي، مدير تحرير موقع “الصحافة التونسية” /
ضابط احتياط سابق بسلاح المشاة الآلية بجيشنا الوطني مسجل تحت عدد 6092/ض
#سـيّـب_تـونـس
رسالة مفتوحة إلى الأستاذ قيس سعيّد رئيس الجمهورية
سيادة الرئيس
بعد تفكير طويل قررت كتابة مقال أوجّهه لك في شكل رسالة مفتوحة، وأنا ممّن يشاركونك الاعتقاد بأن حرية التفكير يجب أن تسبق حرية التعبير. لأن التعبير دون تفكير يكون مجرد هراء قد يتحول إلى ابتذال، كما نراه سائدا في شبكات التواصل الاجتماعي. وهي بالمناسبة فضاءات للتعبير وليست شبكات للاتصال العمومي كما يذهب إليه بعض القضاة لزجر الصحفيين والمدونين ونشطاء المجتمعين المدني والسياسي، جهلا منهم أو ربّما تهرّبا من استعمال المرسوم عدد 115، خوفا أو خدمةً لركاب الاستبداد.
سيادة الرئيس
سأنطلق في مخاطبتك بما هو عزيز على نفسي وصاحب فضل عليك، وأحدّثك هنا عن صاحبة الجلالة الصحافة، السلطة الرابعة والسلطة المضادة لكل السلط التي تعبّر عن الرأي العام. فالصحافة بالنسبة إليّ ليست فقط مهنة عشقتها وربطت بها مصيري بعدما حوّلت لها وجهتي إثر دراسات معمقة في فيزياء الحالة الصلبة والمادة المكثفة، بل هي نَفَسٌ ومصيرٌ ورسالةٌ وقضيةُ تحرّرٍ نذرتُ نفسي لها.
وفي هذا السياق هل أنا بحاجة لأن أحدثك عن انتهاك حرية الصحافة والتعبير بما يجعل ما تعرضَتْ له الصحافة في عهدك من محاصرة والصحفيون من سجن وتنكيل هي الأعلى في تاريخ الجمهورية، وهو ما أدى إلى تدحرج ترتيب تونس في مؤشر حرية الصحافة العالمية إلى أدنى مستوى له منذ 2011؟
أم في حاجة لتذكيرك بالخروقات الحاصلة في القضايا التي تم بمقتضاها الزج في السجون ظلما بزملائي شذى الحاج مبارك التي تواجه مرارة المرض والسجن والقهر بشجاعة ومحمد بوغلاب الذي فقد في السجن 70% من قدرته على الإبصار وخليفة القاسمي، ومراد الزغيدي وبرهان بسيّس وسنية الدهماني ونور الدين بوطار. أو برسام الغرافيتي رشاد طمبورة الذي خط رسما حائطيّا يعبّر عن رأيه في تصريح مُشين لك حول المهاجرين الأفارقة من جنوب الصحراء أوافقه فيه تماما، فألقيتم به في السجن لقضاء عقوبة سجنية بعامين.
ولا يخفاك أنه مقابل تعهداتك السابقة باحترام الحقوق والحريات، قُمتَ بتقليص هوامش الحرية الهشة ومحاصرة الصحافة الحرة وترذيل الإعلام العمومي صوت التونسيين الذي توهمنا أنه تحرر لكنك أعدته إلى عاداته القديمة، وهو الذي كان بوابتك لقلوب التونسيين. فجعلته بوقا ذليلا لك تتصدر صورتك كامل الصفحات الأولى للجرائد وأخبارك نشرات الأنباء، فضلا عن نجاحك في إعادة الرهبة والخوف إلى النفوس. لتجعل صوتك الذي يصلنا عبر صفحة فايسبوك التابعة لرئاسة الجمهورية بعد انتصاف الليالي وفي الفُجور غالب الوقت هو الأوحد الأحد بعد أن ألجمت باقي مسؤولي دولتك عن الكلام، و كأنّ إرادتُك المنفردة هي قَدرُنا المحتوم الذي لا رادّ له، ولا عزاء للرافضين.
فمن يجرؤ اليوم على معارضتك أو نقدك دون خوف من التنكيل به والانتقام منه؟ أو على مطالبتك مثلا بكشف حقيقة هوَسك بالمؤامرات التي لا تغيب عن خطابك ومآلات التحقيق فيها، أومحاولات الاغتيال المزعومة التي ذكرت بنفسك إحداها في اجتماع لمجلس الوزراء وأشهدت عليها وزير داخليتك توفيق شرف الدين الذي تفاعل معك بالإيماء إيجابًا؟ وأخرى في مقر وزارة الداخلية أكدت أنها تستهدفك، حين تطارحت مع القادة الأمنيين موضوع المؤامرة المزعومة، في ظل غياب مريب لوزير داخليتك توفيق شرف الدين. أو قصة الطرد المسموم الذي توصلَتْ به مديرة ديوانك نادية عكاشة، ليظهر فيما بعد عدم صحة ذلك؟
من يجرؤ اليوم أُسوة بما يجري في الدول الديمقراطية وآخرها الولايات المتحدة الأمريكية مع الرئيس جو بايدن، على تناول وضعك الصحي المثير للقلق منذ خوض مديرة ديوانك نادية عكاشة فيه في إحدى التسجيلات المسربة. مع تواتر تصرفات انفعالية غير طبيعية صادرة عنك، لا يمكنها إلا أن تشعرنا بالحيرة والخوف على مصير بلادنا؟ وهو ما يُحتّم العمل على التوقي منه عند إجراء أي تعديل دستوري مستقبلا.
من يجرؤ اليوم على مساءلتك عن عدم التزامك بالحفاظ على إذاعة “شمس آف آم” المستقلة، التي تدخلت بنفسك لمنع بيعها مما أدى إلى وقف مسيرتها ووأدها؟
ومن يجرؤ على مساءلتك عن تمسكك بعدم نشر الاتفاقية المشتركة للصحفيين في الرائد الرسمي للبلاد التونسية الجريدة الرسمية للدولة، التي استصدرت فيها النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين قرارات ابتدائية واستئنافية وتعقيبية لفائدتها من المحكمة الإدارية؟ ثم لمصلحة من يتواصل حرمان الصحفيات والصحفيين التونسيين من حقهم المشروع في الحماية القانونية وفي تحسين ظروفهم المادية والمعنوية؟ ولمصلحة من بتم إبقاؤهم في حالة ضعف وتفقير تحت سيف الحاجة، إن لم يكن ذلك للتحكم فيهم عبر التحكم في لقمة عيشهم؟
ورغم ذلك كله مازال في إعلامنا الوطني نفَس يقاوم ويدافع عن رسالته النبيلة وعن استقلالية مهنته
وتحررها. ومما يثلج الصدر أن أغلب منابر المقاومة الإعلامية اليوم يقودها شباب من الصحفيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــات
والصحفيين باستبسال واقتدار رافضين التخلي عن حلمهم وعن مكتسباتهم في الحرية وتوقهم لها.
في المقابل، هل تجرؤ اليوم وأنت الذي كنت ضيفا قارًّا مبجّلا على مختلف المنابر الإعلامية قبل انتخابك رئيسا للجمهورية في 2019، على إجراء حوار صحفي مفتوح تواجه فيه صحفيين مستقلين، لمناقشة رصيدك منذ 2019 لغاية اليوم، أم أنك تخشى ذلك، وأنت الذي لا تنفك تردد على مسامعنا بأنك لا تخشى إلا الله؟
هل تجرؤ على إجراء حوار صحفي مباشر وحرّ معي؟ أرجّح أنك تخشى المواجهة.
سيادة الرئيس
أعبّر لك بداية عن إعجابي، بنجاحك المبهر في تحقيق مكسب ديمقراطي لتونس لم يسبقك إليه أحد. حيث ومن خلال تركيز دعائم حكمك الفردي، الذي ألغيت بموجبه دولة القانون لتنصّب نفسك حاكما أوحد للبلاد بلا حسيب ولا رقيب، سمحت بحصول عملية فرز تاريخي بين الديمقراطيين الحقيقيين الجديرين بحمل هذه الصفة وغيرهم من أدعياء الديمقراطية المخادعين والمزيفين. بين من يؤمن بدولة الحقوق والقانون والمؤسسات وبأن تونس قَدر كل التونسيين تجمعهم ولا تفرقهم، وبين من تطوع لخدمة الاستبداد ولعق أحذيته. بين من يؤمن بقيم الجمهورية ويدافع عن حقوق المواطنة لكل المواطنين ومنها الحق في المحاكمة العادلة بقطع النظر عن توجهاتهم السياسية وخلافاتهم واختلافاتهم، وبين الفاشيين والاستئصاليين والوصوليين الانتهازيين. تماما كما فسحت المجال أمام طيف من معارضيك الذين تصفهم بأعداء الأمس وخصماء الدهر، لتجاوز خلافاتهم السياسية والاتفاق على قاعدة مبدئية تنتصر للحقوق والحريات وتتصدى للمظالم، على الأقل حماية ودفاعا عن أنفسهم. وحوّلت بالتالي معادلة الاستقطاب السياسي في بلادنا من إسلاميين/حداثيين إلى ديمقراطيين/فاشيين.
تماما كإعجابي بنجاحك في تأجيج وإبراز أسوء ما كان مختبئا في دواخلنا من بذاءة وأحقاد وشماتة وحسد وطمع ووضاعة وتخلّف، لتفيقنا من غفوة الزهو بالماضي والاغترار بأننا الشعب العظيم وريث قرطاج الإمبراطورية، أرض الثلاثة آلاف سنة حضارة وأعظم الجمهوريات الديمقراطية في فترة ما قبل التأريخ.
ولـــــم يـكـن خافـيـا علـى كـل ذي وعـي وبصيرة أنـك بانتهاكك وخـرقك الجسيـم لـدستور البـلاد الشرعـي في 25 جويلية 2021، ستمضي لهدم مؤسسات الدولة وبناء نظام حكم فردي على مقاسك وهواك لا يمكن أن يؤدي بك إلا للاستبداد، وليس لدعم مناعة الدولة ولإصلاح وتقوية دعائم الحرية والتنمية والازدهار بترسيخ الإيجابيات في تجربة الانتقال الديمقراطي منذ 2011 وما سبقها من إنجازات منذ قيام الجمهورية، وتلافي الهنات والسلبيات.
فكان أمرك الفرعوني عدد 117 لسنة 2021 المتعلق بتدابير استثنائية لم تكن كذلك حيث دامت، الذي احتكرت بموجبه كافة سلطات الدولة؛ وصولا إلى دستورك الشخصي لسنة 2022 وما شابهُ من أخطاء بدائية ومن انقلاب حتى على الاستشارة الشعبية الالكترونية التي نظمتها خلال الثلاثي الأول من سنة 2022 ودعتك لتعديل الدستور الشرعي للبلاد لا لإلغائه؛ والمجالس الصورية التي أحدثتها لتمثيل الشعب وبلغت استهانتك بها حد تدخلك السافر في عمل مجلس النواب لوقف نظره في مقترحات القوانين التي لا تعجبك. ومنها وأنت الثوري الذي يعتبر التطبيع خيانة عظمى، قانونٌ لتجريم التطبيع تمّت مباشرةُ التصويت على عدد من فصوله. مهددا النواب بالملاحقة القضائية بتهمة الاعتداء على أمن الدولة الخارجي إذا ما أصروا على الاستمرار في النظر فيه. وذلك دون أن تمكنهم من حقهم في إصداره، على أن تمارس لاحقا حقك في رفضه وردّه لهم استنادا لدستورك الذي صغته وكتبته لنفسك بخط يدك.
كما ألغيت المجلس الأعلى للقضاء بجعله كيانا مشلولا، كي تبيح لنفسك التصرف المطلق في المؤسسة القضائية التي حولتها من سلطة مستقلة رغم هناتها إلى وظيفة خاضعة وذلول تأتمر بأمرك، وتُسيّر بمذكرات العمل التي تصدرها وزيرة لاعدلك. ومن لم يحكم من القضاة بهواك في سجن منتقديك ومعارضيك وخصومك السياسيين الذين تعتبرهم خونة ومجرمين، تعتبره شريكا لهم وينزل به عقابك لينال من التنكيل ما ينالونه بسكّين جاهز للذبح وضعته على رقابهم. ومنهم على سبيل الذكر لا الحصر، أحد قضاة التحقيق بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب الذي تم تغييره ووقفه عن العمل وإحالته على مجلس التأديب لرفته، فقط لأنه قرر مواصلة التحقيق مع متهم وهو بحالة سراح دون أن يصدر فيه بطاقة إيداع في السجن تنفيذا لإرادتك التي عبّرت عنها جهارا. فجعلته عِبرةً ومصدر ترهيب لكل قاض يرفض تنفيذ التعليمات.
ويكفي في هذا المجال الإشارة إلى القضاة الـ47 الذين عزلتهم ظلما ورفضت إمعانا في التنكيل بهم وأنت المؤتمن على سيادة القانون وتنفيذه، احترام وتنفيذ قرارات المحكمة الإدارية الصادرة لفائدتهم باسم الشعب الذي لا تنفك تصفه بالعظيم وتتحدث وتقرر باسم إرادته. جاعلا نفسك قدوة لمنظوريك في انتهاك القانون وتشليك القضاء وعدم احترام أحكامه.
سيادة الرئيس
لست بحاجة لتذكيرك بالخروقات الحاصلة في المحاكمات السياسية الكبرى مثل قضية المؤامــــــــــــــــرة
المزعومة التي تعتبر أكبر فضيحة قضائية وسياسية في تاريخ بلادنا، والتي توجّهها وتتابعها بصريح ذِكرك خلال زيارتك الليلية لمقر وزارة الداخلية مساء 13 فيفري 2023، وهي في تقديري ليست أكثر من ضربة استباقية قمت بها لمنعهم من التوحد لأنه لن يمكنك الاستمرار في الانفراد بالحكم إلا في ظل تشتتهم وتواصل الفرقة بينهم. وكما قال طرفة بن العبد: إذا خلا لكِ الجوُّ فبيضي واصْفِري. دون أن أحتاج كذلك للتعريج على الأحكام السجنية “الأسطورية” الصادرة ضدهم، والتي لم تشهد لها حتى محاكمات نورمبرغ للقادة النازيين إثر هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية مثيلا.
أو القضية التي تم اختلاقها لتبرير اعتقال الدكتور منذر الونيسي الرئيس السابق بالنيابة لحركة النهضة، وقطع الطريق أمامه لإصلاح الحركة وتصويب مسارها حسب قناعاته، رغم ما كلّفه ذلك من حرمانٍ لمئات طلبة كلية الطب من الاستفادة من تخصصه وخبرته، وحرم آلاف المرضى من فقراء هذا الشعب المنكوب من معالجته لهم في مستشفى شارل نيكول العمومي. بما يشير حسب رأيي إلى أن الاعتقال التعسفي للدكتور منذر الونيسي مرتبط بوجود قرار بتصفية هذه الحركة نهائيا، وهو ما يؤكده الغلق التعسفي وغير القانوني لكافة مقراتها، ثم الاعتقال التعسفي لرئيسها بالنيابة العجمي الوريمي الذي خلَفه ويعتبر أبرز وجوهها اعتدالا وأكثرها احتراما في صفوف مختلف أطياف المعارضة.
أو بالعمل الإنساني الذي حولتَه إلى عمل إجرامي وناشطات ونشطاء المجتمع المدني الذين اعتقلتهم ظلما وعدوانا بسبب جهودهم النبيلة الرائعة لتقديم الدعم للمهاجرين من جنوب الصحراء، فقط لتبرير مزاعمك بوجود مؤامرة دولية تستهدف تغيير هوية البلاد وتركيبتها الديمغرافية.
أم هل عليّ تذكيرك بمحنة القاضي الشجاع بشير العكرمي الذي شهدت له مؤسسات دولية بالكفاءة العالية في تناوله لملفات قضايا الإرهاب التي أدارها، ويقبع اليوم في السجن في إطار تصفية حسابات سياسية إيديولوجية خسيسة أغمضتَ عينيك عنها. وغير ذلك من المظالم الصارخة التي لا يمكنني الخوض في تفاصيلها لعدم حصولي على ملفاتها، مثل قضية وزير الداخلية ورئيس الحكومة الأسبق علي العريّض أو الوزير الأسبق مهدي بن غربية أو رئيس بلدية الزهراء السابق الشاب المحبوب وباهر النجاح ريّان الحمزاوي.
لكني سأكتفي بالإشارة إلى ما صاحب تلك الخروقات من انهيار قيمي وأخلاقي، عندما تُحرَم رضيعة من صدر أمها الناشطة الحقوقية شريفة الرياحي التي تم اعتقالها مع مجموعة من الناشطات والنشطاء في مجال إغاثة اللاجئين والمهاجرين غير النظاميين من بينهم الرئيس السابق لبلدية سوسة محمد إقبال خالد دون وجه حق، عوض تكريمهم. أو تُحرَم المعتقلة السياسية الأم عبير موسي من مقابلة مباشرة لابنتها الصغرى، رغم حصولها على إذن قضائي في ذلك. أو عندما يدخل المعتقل السياسي غازي الشواشي في إضراب جوع، احتجاجا على حرمانه من مقابلة مباشرة لزوجته وحفيدته. ولعلمك وإن كنتَ في غير حاجة للتذكير، بأنهم وصحبهم مساجينُ ومعتقلون سياسيون، شاءت وزيرة لاعدلك التي تنفي وجود مساجين ومعتقلين سياسيين في بلادنا أم أبت. أفبعد هذا العارِ عارْ، وبعد هذا السقوطِ سقوطْ، وبعد هذا الإجرام إجرام؟
وللأسف الشديد فقد ساعدك في تسلطك على القضاء وترذيلك له، واستباحتك للمحاماة التونسية وإهانتك لها وتجريدك لها من هيبتها ومن حقوقها القانونية والدستورية المكتسبة والدوس على كرامة القضاة والمحامين، تواطؤ هيئة المحامين التي تخلت عن القيام بواجبها المهني والأخلاقي وعن نصرة القضاة المضطهدين والمهددين الذين لجأوا إليها أو يرون فيها ملجأ إذا ما طالهم تسلّط الإستبداد وتنكيله، وفرّطت في أهم المكاسب الدستورية التي تحققت للمحامين بفضل الثورة.
سيادة الرئيس
مع وضع يدك على القضاء وتحكمك فيه، استشرى الظلم وأصبحت السجون مأوى ليس فقط للمجرمين بل وكذلك للصحفيين والمدونين ونشطاء المجتمعين المدني والسياسي. فتم عمليا إلغاء المرسوم عدد 115 لسنة 2011 المتعلق بحرية الصحافة والتعبير، وتعويضه بمرسومك المخادع سيء الذكر عدد 54، وبقانون مكافحة الإرهاب وغسيل الأموال ومجلة الاتصالات والمجلة الجزائية حتى فيما لا نظر لها فيه مثل الفصل 67 المتعلق بارتكاب أمر موحش ضد رئيس الجمهورية.
وبالمناسبة، هل تعلم بأن “الأمر الموحش” هو الفعل اللاأخلاقــــي
المنغرس في الرذيلة ويتمثل عندنا في تمرير وسطى اليد على مؤخرة شخص ما انطلاقا من دُبُره (يُقال فُلان من وَحْش النّاس: أي من أراذلهم)، وهو أبلغ وأسوأ من الإهانة؟ لذا تم استعماله كمصطلح لترجمة العبارة الفرنسية Offense بدلا من عبارة “إهانة” خلال تحرير مشروع المجلة الجنائية (الجزائية) التونسية. وأن من يستعمله لعقاب من ينتقد رئيس الدولة، إنما يسيء لرئيس الدولة ذاته ويهينه ويجعله محلّ تهكّم وسخرية؟
وفي حين كنا نأمل بما هو متوسم فيك من الرفعة والفضيلة، أن تستثمر سلطتك لفرض أخلاقيات للعمل السياسي تسمو به عن الممارسات الوضيعة التي انجر لها واستُثمر فيها، والتصدي لجحافل الذباب الالكتروني المنحطة التي تستعملها الأطراف السياسية المختلفة لسحل خصومها، لكن للأسف لم يختلف سلوكك عمّن سبقوك. ونتابع اليوم كيف تقوم جحافل الذباب الزقفوني المناصرة لك بسحل خصومك ومعارضيك والصحفيين المستقلين والقضاة والفنانين والنيل من أعراضهم وتشويه سمعتهم، في ظل الحصانة الكاملة من أي تتبع قضائي. ولست بحاجة لتذكيرك بفضيحة مديرة ديوانك نادية عكاشة التي كشف تسجيل مسرّب عن تواطؤها مع هذه المجموعات القذرة لتشويه سمعة غير المرْضيّ عنهم بما في ذلك مسؤولون في نظامك. وفي حين كنا ننتظر منك بعد انفضاح أمرها إقالتها ومحاسبتها، كافأتها بأن جعلتها ترافقك خلال زيارتك الرسمية لقطر في نوفمبر 2020 أين حظيت بكل التكريم والتبجيل. وبلغ الأمر في نظام علوّك الشاهق درجة أن الأحكام القضائية التي تصدر في القضايا الخطيرة والكبرى، أصبح الإعلام بها يتم عن طريق هذه الشبكات المناصرة لك قبل القضاء وقبل أن يعلم بها المحامون النائبون في القضية. فلو كنت تعلم ذلك وتتجاهله فتلك مصيبة، أما إن كنت لا تعلم فالمصيبةُ أعظمُ.
كما أعتقد بأن امتناعك المقصود عن إقامة المحكمة الدستورية إلى غاية اليوم، هدفه سعيك لتحصين قراراتك وترسيخ علويتها على الدستور وعدم السماح لأية جهة بمناقشتها أو الاعتراض عليها. فضلا وحسب ما بدأ يروّج له أنصارك، عن التمهيد لتجديد ترشحك لعهدة رئاسية ثالثة لا حق لك فيها في ظل تشتت خصومك ومنافسيك وتفرّقهم الأخرق والمرَضيّ وعجزهم عن التوحد من أجل الدفاع المشترك عن الحد الأدنى من حقوقهم كمواطنين، حتى يكون ترشحك غير خاضع لأية رقابة دستورية. ولن يكون ذاك منك مستبعدا وأنت الذي أعلنت بخصوص الانتخابات الرئاسية خلال زيارتك لروضة الزعيم الحبيب بورقيبة رحمه الله بمناسبة إحياء ذكرى وفاته في 6 أفريل 2024، بأنها “قضية بقاء أو فناء”. فبقاءُ من تقصد؟ وفناءُ من؟
هذا دونًا عن استغلال حصانتك الدستورية لمواصلة التفصي من محاسبتك على الجرائم الانتخابية التي نسبتها لك محكمة المحاسبات خلال الانتخابات الرئاسية لسنة 2019، والتي جرى تعليق النظر فيها بسبب تلك الحصانة.
ولا أستبعد أن تخرج جوقة من أنصارك بهتافات من قبيل “الشعب يريد قيس سعيّد من جديد”، أو “Nous voulons Kaïs Saïed Président 2029-2034″، لتتفاعل معها متمنِّعًا وأنت الراغبُ في تقديري حدّ الهَوَس، بالتعبير عن عدم رغبتك في تجديد ترشحك لرئاسة الجمهورية. لكن طالما أن تلك هي إرادة الشعب والشعب يريد، فأنت ملزم رغما عنك بالرضوخ لإرادته اضطرارا وليس اختيارا. ولا أستبعد أيضا أن يلقى الذين يتجرأون على منافستك، نفس مصير الذين سبقوهم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لسنة 2024، وما حصل مع المترشح العياشي الزمال يحدّث عن نفسه بنفسه ويغني عن أي تعليق. وفي ظل غياب المحكمة الدستورية، وقضاء ذلول تابع يمكنك أن تفعل ما تشاء.
علما بأن غياب المحكمة الدستورية من شأنه أن يدخل البلاد في حالة من الفتنة والفوضى التي قد
تنتهي بحرب أهلية في صورة حصول شغور في موقع رئاسة الجمهورية. نظرا لعدم وجود بديل دستوري يمتلك شرعية الدستور الجاري به العمل لإدارة المرحلة الانتقالية، ولعدم قبول شرائح واسعة من التونسيين تسليم السلطة الانتقالية طبقًا لدستور سنة 2014، لرئيس البرلمان المنحلّ المعتقل حاليا راشد الغنوشي.
وبقطع النظر عن ذلك كله مما لا أتمنى حصوله لبلادنا، تعلم جيدا وأنت القارئ الجيد للتاريخ، بأن القانون عقد اجتماعي وتعاقد بين الحاكم والمحكومين. وأن الخروج عن القانون ونفيه، مثلما يعطي للحاكم سلطة زجر المارقين، فإنه يعطي أيضا للمحكومين مشروعية التمرد على الحاكم الظالم الذي يضطهدهم.
سيادة الرئيس
في تقديري أنك فشلت في إدارة البلاد ليكون الفشل والشعبوية هما العنوانان الرئيسيان لمرحلة حكمك. وما حديثك عن المؤامرات التي تستهدفك أو الإدارة التي تعرقلك إلا غطاء أحمق لتبرير فشلك وعجزك عن إيجاد حلول لمشاكل البلاد، ورغم ذلك تصر على تطبيق نظرية الحصان الميّت فينا. وتكفي الإشارة في هذا الإطار لفشلك حتى في تنظيم مسيرات ووقفات مساندة لك ذات قيمة وأثر، رغم كل الإمكانيات التي تم وضعها على ذمتها للغرض والإعداد المسبق لخرجاتك الليلية. وفشلك الذريع في اختيار وزرائك ومعاونيك الذي بلغ درجة المهزلة أحيانًا؛ ولتفاقم معاناة التونسيين والتدهور الكبير الحاصل في مقدرتهم الشرائية بسبب غلاء المعيشة، وفشلك في إدارة ملف الهجرة غير النظامية سواء المتعلق منها بالمهاجرين التونسيين الهاربين من بلادهم “الهايلة” التي فشلت في توفير الحد الأدنى من الكرامة والعيش الكريم لهم والمرحّلين من أوروبا قسرًا، أو بالمهاجرين من جنوب الصحراء الذين قدموا إلى بلادنا يدفعهم حُلمهم في الانتقال إلى إيطاليا، ليقع اتهامهم باطلا بأنهم إنما جاؤوا في إطار مؤامرة تهدف إلى تغيير هوية تونس وتركيبتها الديمغرافية؛ أو إلى العزلة الدولية التي أصبحت تعاني منها تونس في عهدك، فضلا عن مسؤوليتك في تدهور العلاقات مع المملكة المغربية الشقيقة التي سحبت سفيرها من بلادنا احتجاجا على موقفك المناوئ لها والمتعارض مع مبدإ اتحاد مغربنا العربي الكبير، وهي التي كانت عبر كل تاريخها سندًا متينا لبلادنا؛ لتبيُّن ذلك.
عندما نتابع المحاكمات السياسية الجارية في عهدك يمكننا أن نتبيّن بوضوح ليس فقط حجم ظلمها، بل والأنكى من ذلك مدى سُخفها وابتذالها. فحتى جرائم خطيرة كالإرهاب وتبييض الأموال المرتبط عادة بتجارة المخدرات والسلاح والرقيق الأبيض، ابتذلتموها وقمتم بتحويلها هي والقضاة الذين يبتّون فيها إلى أضحوكة ومصدر للتندّر والاستهزاء. فالمؤامرة الانقلابية “الخطيرة” التي أقحمتم فيها كمال اللطيّف وبرنار هنري ليفي لتضفوا عليها نكهة تجعلها مستساغة لدى الرعيّة ومبهرةً لها، استهدفتَ من خلالها تصفية خصومك السياسيين وتبرير اعتقال وتتبع عشرات القادة السياسيين ونشطاء المجتمع المدني، انبنت أساسا على شهادة سخيفة مثيرة للتندّر والسخرية لشاهدين محجوبيْ الهوية XX وXXX (تمّ التعرف عليهم) دون أية أفعال أو أدلة مادية تؤكدها. ورئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي التي قصدت إدارة رئاسة الجمهورية لإبلاغها عريضة لفائدة المحكمة الإدارية، يتم اعتقالها وتوجيه تهم إرهابية لها وكأنها هاجمت قصرك بميليشيا مسلحة بهدف اغتيالك وتنصيب نفسها حاكمة للبلاد مكانك.
هل بلغتك أخبار محكمة التفتيش التي انتصبت لمحاكمة برهان بسيّس على أسلوب إدارته لحواراته الإعلامية والزج به في السجن بسبب العبارات التي يستعملها في التعليق عل خطابك والتعبير عن مساندته لزملائه الذين تنكل بهم؟ هل بلغتك أخبار إيداع مراد الزغيدي أيقونة صحافتنا الوطنية، لاتهامه بتبييض الأموال في إشكالية ضريبية يمكن حلها بكل بساطة مع القباضة المالية؟ لا أظنك تهتم لذلك، الأهم أنهما في السجن، وفي التنكيل بهما عِبرة لكل من تسوّل له نفسه من الصحفيين القيام بعمله بشكل حر ومستقل.
تصوّر يا صاحب العلوّ الشاهق وزاعم السير على خطى الخليفة الراشد العادل عمر الفاروق، أنه تمّت إحالتي بمناسبة عملي في برنامج l’Emission impossible بإذاعة “إي آف آم”، على الدائرة الجنائية المختصة في قضايا الإرهاب لمحاكمتي بتهم إرهابية هي حسب قرار ختم البحث: تكوين تنظيم ووفاق إرهابي على علاقة بالجرائم الإرهابية وربط اتصالات مع أعوان دولة أجنبية الغرض منها الإضرار بحالة البلاد التونسية من الناحية الدبلوماسية… وهي جرائم توفرت أركانها المادية والمعنوية حسب حاكم التحقيق وممثل النيابة العمومية التي تحولت إلى نيابتك الشخصية التعزيرية، لأنه: “ثبت (لديهما) بمظروفات الملف أن المظنون فيه زياد الهاني كان يتواصل مع المظنون فيها شهرزاد عكاشة (صحفية) وتحادث معها في محتوى التسجيلات الصوتية المسربة كما توصل عبر بريده الالكتروني نسخة رقمية من أبحاث تعلقت بإحدى القضايا المنشورة بالبلاد التونسية (قضية الصحفية شذى الحاج مبارك)”. وذلك إثر تناولي في الإذاعة لموضوع تسريب تسجيل صوتي بين الصحفية شهرزاد عكاشة ورئيس حركة النهضة بالنيابة الدكتور منذر الونيسي.. أفلا يستحون؟ يا للعار…
والغريب في الأمر أنه عندما ينبّهك أصدقاء تونس وشركاؤها وحتى منظمة الأمم المتحدة للتجاوزات التي يرتكبها نظامك وتتعارض مع الالتزامات الدولية لبلادنا وتعهداتها عسى تضع حدا لها، تعتبر ذلك تدخلا في سيادتنا الوطنية. وَيْكَأَنَّنَا لا نعيش في دولة هي جزء من المنتظم الأممي مثلما لها حقوق فيه عليها واجبات تجاهه يتوجب عليها الالتزام بها واحترامها، وإنما في ضيعة أنت صاحبها ونحن عبيدك فيها.
أوَ لم يكن أحرى بك أن تضع حدا للتجاوزات التي تمّت الإشارة لها عوض التنديد بطرحها وبمن أثارها؟ وإذا ما كانت مواقف هذه الأطراف تمثل فعلا تدخلا سافرا في سيادتنا الوطنية، فلِم لم تقم من منطلق هذه السيادة التي تتحدث عنها باتخاذ إجراءات عقابية ضدها، وليس الاكتفاء بمجرد محادثة للاستهلاك الداخلي مع وزيرك للخارجية دون حتى استدعاء سفراء الدول المعنية لإبلاغهم الاحتجاج على حكوماتهم؟
وعوض أن تستعمل عبارة “السيادة الوطنية” النبيلة كسلاح تشهره في وجه كل من يطرح موضوع انتهاكك لحقوق الإنسان، أولى بك أن تستعملها فيما ينفع بلادنا ويحفظ مصالحها ضد أي انتهاك. ومن ذلك ما تتسبب فيه جارتنا الجزائر لبلادنا من أضرار فلاحية واقتصادية واجتماعية فادحة بسبب السدود الحدودية التي تقيمها على وديان مشتركة بيننا وتخضع بالتالي للقانون الدولي للمياه دون أي تنسيق أو تشاور معنا. وكان زميلي الصحفي هادي الرداوي من قفصة قد بادر بطرح هذه المشكلة منذ 2011 عندما تعرض لموضوع انهيار الفلاحة وهجرة السكان في منطقة الجنوب الغربي بسبب جفاف وادي بيّـاش المارّ بقفصة قادما من الجزائر، نتيجة إقامة سدّ الوسرة عليه من قبل الجانب الجزائري الذي استفاد منه لخلق الثروة بإحياء فلاحته وإنعاش اقتصاده وتثبيت مواطنيه الساكنين في تلك الجهة على حسابنا ودون أية مراعاة لحقوقنا ومصالحنا.
وهو نفس ما أكد خطورته على بلادنا، موقع الكتيبة في مقال للزميلة الصحفية سماح غرس الله بعنوان: “المناطق الحدودية التونسية : أزمة جفاف عمّقها استنزاف الجزائر للموارد المائية المشتركة”، تمّ نشره بتاريخ 28 أفريل 2024، أي خلال عهدك الزاهر. فماذا فعلت لتلافي ذلك ووضع حد لانتهاك حقوقنا المائية الوطنية التي نحن في أشد الحاجة إليها؟ أم أن السيادة الوطنية بالنسبة لك هي فقط حقك في الاستفراد بمعارضي سياستك للتنكيل بهم؟
قيادتك للبلاد ثبت فشلها، وعوض الأمل في الإنقاذ كتمتَ أنفاسها وحولتها إلى هيكل محنّط وصورة جامدة وباهتة. وأصبحتَ بالتالي في تقديري تمثّل عبئا وخطرًا عليها وتهديدا لها. ولتوفر لنفسك مرجعية للتقييم، لن أدعوك لاعتماد سلوك رئيس دولة ديمقراطية غربية في المقارنة، بل إلى أسلوب شقيقنا وجارنا الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون في إدارة حُكم بلاده وما يتميز به من الحكمة والرصانة والمهابة النابعة من قوة هادئة. أنظر للثورة الحقيقية والهادئة التي ينجزها في بلاده في مختلف المجالات بقطع النظر عن الانتهاكات الحقوقية المنسوبة لنظامه، وقارنها بحربك التحريرية الدونكيشوتية. أنظر لأسلوبه الراقي واللائق في التعامل مع مجالسيه سواء في اجتماعات مجلس الوزراء أو مجلس الأمن القومي ومدى احترامه لهم، وقارن ذلك بأسلوبك.
لهذا السبب أدعوك إلى الوقوف وقفة صدق أمام مرآة نفسك. أُدرك تماما وأنت الذي ترى نفســــــــــــــــــك
مبعوثا للعناية الإلاهية، أنك لن تستقيل لأن السلطة بالنسبة لك قضية بقاء أو فناء وإفلات من المحاسبة. وأقول لك باسم العقل ولمصلحة البلاد: سيّب_تونس.
سيادة الرئيس
بخطابك دائم التشنج والتوتيري الذي تغيب عنه الابتسامة المطمئنـة للنفوس والباعثة للأمل، ويكفي أن تراجع عديد الفيديووات التي تظهر فيها لتتأكد من ذلك، نجحت في تقسيم المجتمع وإثارة نقمة شرائح هامة منه تؤمن بك وبنزاهتك وصدقك، على معارضيك ومخالفيك في الرأي الذين لا تنفك تصفهم بالحشرات والمزابل والقمامة والخلايا السرطانية والخونة والمجرمين والإرهابيين وتتهمهم بالتنكيل بالشعب والعمل على إسقاط الدولة. فضلا عن رجال الأعمال الذين يتعرض بعضهم للابتزاز والسلب بمطالبتهم إما بالدفع أو بالسجن. إذ تم وضعهم جميعا في سلة واحدة، موصومين بالنهب وسرقة المال العام والاستيلاء على أموال الشعب. فأيّ مآل تتصوره لدولة تبنى سياستها على بذاءة الخطاب الرسمي وزرع الفتنة والفُرقة والأحقاد بين أبنائها وعلى ترذيل نُخبها؟ وهل تستبعد أن يقوم الموتورون والمضطربون سلوكيا ونفسيا من أنصارك بالاعتداء على من لا تنفك تصفهم بالخونة والمجرمين وقتلهم؟ ومن سيتحمل مسؤولية ذلك حينئذ؟ أم أن الخطاب الرسمي سيعتبر ذلك مجرد تجاوزات فردية، رغم تحملك مسؤولية التحريض عليها؟
لذا أدعوك بكل لطف إلى التخلّي عن خطابك المتشنج وللتواضع، مذكّرًا إيّاك بقول الشاعر:
ملأى السنابلِ تنحني بتواضعٍ والفارغاتُ رؤوسهنَّ شوامخُ
ثم أنك لا تفتأ تتحدث عن حرب تحريرية وعن مشروع جديد للديمقراطية القاعدية تتوجه به للإنسانية، دون أن تكتب فيه نصّا واحدا مثلما يفعل الفلاسفة والمفكرون حتى يتسنى لنا الاطلاع عليه ومناقشته والاستفادة منه لتطوير أفكارنا التقليدية المستمدة من المواثيق الدولية والتجارب الإنسانية المختلفة. وحتى لو اعتبرناك زعيما مُلهمًا، لا نجد حولك مفكرين وحواريين يدافعون عن فكرك ويبشرون به. إلى درجة أننا في عملنا الصحفي نشقى لإيجاد شخص يحظى بحد أدنى من الاحترام يمكنه التعبير عن توجهاتك والدفاع عن خياراتك؟ أكثر من ذلك، لِتعلمْ أني شخصيا أشعر بالأسى للوضعية المهينة التي يبدو فيها وزراؤك خلال نقل اجتماعاتك بهم. ثم يخرج علينا من يهلل باسترجاع الدولة لهيبتها، هيبة تجلّت في أحطِّ مظاهرها خلال الجنازة المهينة للرئيس الأسبق فؤاد المبزع رحمه الله التي تخلّفتَ عن حضورها.. وكأني بك في إطلالاتك التي تحاكي بها انتفاخا صولات الأسود، تنتشي حدّ الثمالة بقول الشاعر بن هانئ الأندلسي في قصيدته المدحيّة للمعز لدين الله الفاطمي:
ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ
و كأنّما أنتَ النـبيُّ محمّــــــــدٌ وكأنّمـــــــا أنصــــــاركَ الأنــــصارُ
والحال أنك لست في مقام المعز لدين الله الفاطمي باني القاهرة، ولا في مقام النبيّ محمّدٍ، ولا أنصارك في مقام أنصاره.
في تقديري أنه واهمٌ من يتصور القدرة على مصادرة الحريات وإهانة قادة الرأي في البلاد المعتقلين بوضع الأصفاد في أيديهم، كأحمد صواب الذي أصبح رمزا للوحدة الوطنية من أجل الدفاع عن الحقوق والحريات، أو محمد بوغلاب وسنية الدهماني وعصام الشابي وغازي الشواشي وعبد الحميد الجلاصي ورضا بلحاج وجوهر بن مبارك وغيرهم؛ فهي وسام شرف يوشح صدورهم ومسيرتهم، بما سيحفظه التاريخ لهم. وسيظل للكلمة الحرة، كلمة الحق التي تتحدى البطش والترهيب صُقورها وفُرسانها.
كما ستظل أنت يا أستاذ قيس سعيّد حسب رأيي حدثًا عابرًا صنعته المصادفة التاريخية، ودعيًّا تسلط على ثورة لا علاقة له بها البتة، ليجعل نفسه متحدثا ومقرّرا باسمها في نفس الوقت الذي يلغي فيه مقوماتها، بما في ذلك الحريات التي بشّرت بها وتاريخُها الرمزي 14 جانفي 2011 يوم تجمّع الأحرار الذين لم تكن من بينهم، أمام مبنى وزارة الداخلية الرهيب متحدّين بطشها وداعين لإسقاط النظام. فضلا عن إلغائك للدستور الجماعي المنبثق عنها الذي خنت قَسمك باحترامه، وانقلبت عليه وهو الذي أوصلك إلى الرئاسة وجعلك على سُدة الحكم، وأنت المواطن البسيط ورجل القانون الذي كنت تنأى بنفسك عن كل ما له صلة بالحريات وبالشأن الحقوقي وتمشي في الشوارع سائلا الله الأمان والسلامة.
بل بلغ بك الأمر بعد أن قمت بتجميد عمل البرلمان في اعتداء صارخ على الفصل 80 من الدستور، بافتعال ملاحقة قضائية لنوابه الذين تنادوا للاجتماع، ويظلون شرعيين رغم كل الزلّات والفوضى التي أحدثها بعضهم، والتنكيل بالمقيمين منهم في الخارج باحتجازهم ومنعهم من السفر للالتحاق بأُسرهم واحتضان أبنائهم.
أقول لك قولي هذا مقالَ صدقٍ من قَؤولٍ فصيحِ، عسى ينير بصيرتك وتتعظ به. وسعيدٌ من اتعظ بغيره ومن غيره. فأنا لست معارضا لك ينازعك سلطتك، لأن المعارضة شأن المشتغلين بالسياسة ولستُ منهم. ولا يهمني بقاؤك في السلطة أو رحيلك أو ترحيلك عنها، إذ قد نُبتلى بشعبويّ أفشل منك. لأننا كشعب نحن أصل المشكلة وأنتم نتاجها. وهي مستمدة من ثقافة دفينة مازالت تفعل فعلها فينا، ذلك أننا نحن من نصنع الطغاة الذين لا يفتأون ينادوننا بشعبهم العظيم لتنويمنا. ونحن من ننحني لنجعلهم بتخاذلنا يركبون ظهورنا ويسيّروننا سير البهائم.
فالأهم عندي كمواطن سيّدٍ وليس كفردٍ في رعيّةٍ خانعة، وكصحفيٍّ يتشرّف ويعتزُّ بأن يكون أحد صقور الصحافة التونسية، هو الثبات في القيام بواجبي مهما كانت التحديات ورغم كل حملات الإساءة والتشويه المُشينة التي أتعرض لها. وأن أكون قُدوة لزميلاتي وزملائي الصحفيين الشبان منهم خاصة وجسرا يساعدهم على العبور النهائي إلى ضفة الحرية وجعل قوسها غير قابل للغلق مستقبلا، كما حصل بعد 1981 و1987. وسأقف تجاه من سَيَليك إذا ظل في العمر بقيّة، نفس الوقفة التي أقفها الآن تجاهك ووقَفتُها تجاه كل من سبقوك قبل 2011 وبعده. تماما كما سأكون غدًا أول المدافعين عن حقوقك القانونية كمواطن تونسي ومنها حقك في المحاكمة العادلة، وفي أن تحضر محاكمتك في هيئة لائقة تحفظ كرامتك وهيبة المحكمة وليس بـ”شلاكة”؛ طبعا إذا صرت موضوع ملاحقة قضائية كمن سبقوك في لعنة الحكم، وهو ما يبدو أن الغرور وخمرة السلطة وشَبَقَها جعلاك تسقطه من حسابك. ذلك أن المبادئ عندي لا تتجزأ.
فأنا مواطنٌ حُرٌّ وفَنَنٌ من شجرة الحرية وغرسُ الجمهورية والدولة المدنية المستقلة وطلعُها، ناصريٌّ وحدويُّ الفكر والهوى وبورﭬيبيُّ المنهج وإنسانيُّ العقيدة، يُعتبر صمتي تجاه ما يحصل من انتهاكات وضرب للحقوق والحريات خيانة. وصحفي حامل لرسالة نبيلة، هدفها إنارة الرأي العام وتجذير الوعي والثقافة الديمقراطية وإيقاظ الضمائر. رسالةٌ مطلبها الحقيقةُ والعِزّة والكرامة غايتها، والحرية نَفَسُها وأداتها وسلاحها.
وضابط احتياط سابق بجيشنا الوطني قرّة أعين التونسيين وتاج رؤوسهم، تعلمت فيه أن الحياة عقيدة وجهاد، وأقسمت فيه بشرفي وبسلاحي أن أكون فداءً للوطن بروحي ودمي. وأظل على ذمته إلى آخر نَفَس في صدري. وما الحياةُ إلاّ وقفةَ عِزٍّ وشُموخٍ وإباء.
وأذكّرك يا سيادة الرئيس بأن كرسي الحكم الذي أحنى لك الرقاب الخانعة وتعتلي شهوته اليوم، لو دام لغيرك لما آل إليك. وبأن الدخان قد يحجب النور طورًا، لكن شمس الحق والعدل والحرية لا تغيب..
تحيا تونس..
حُرّر بتونس في 3-28 ماي 2025
زياد الهاني / صحفي، مدير تحرير موقع “الصحافة التونسية” /
ضابط احتياط سابق بسلاح المشاة الآلية بجيشنا الوطني مسجل تحت عدد 6092/ض