معهد واشنطن للدراسات: تونس تجري انتخابات – ولكن هل سيُقبِل الناخبون على المشاركة فيها؟
لمواجهة تلاعب الرئيس سعيّد بالانتخابات وتزايد القمع، يجب على واشنطن أن تعمل بشكل أوثق مع جهات اتصالها في الجيش التونسي، والمجتمع المدني، وحكومات الشركاء الأوروبيين.
في السادس من تشرين الأول/أكتوبر، ستجري تونس ثالث انتخابات رئاسية منذ الثورة التي أطاحت بالمستبد زين العابدين بن علي في عام 2011. ورغم أن البلاد كانت محط اهتمام كبير خلال انتقالها الديمقراطي القصير في العقد التالي، إلا أن الرئيس قيس سعيّد قد أعاد صياغة قواعد الانتخابات لتأمين فوزه مجدداً، واستبعاد جميع المنافسين تقريباً. كما زاد من استخدامه للتكتيكات القمعية، مما يشير إلى أنه لا يثق في قدرته على الفوز بشكل مقنع. وينذر سلوكه المتطرف بمزيد من القمع وعدم الاستقرار خلال فترة ولايته الثانية الحتمية، مما قد يشير إلى مرحلة جديدة من التراجع الديمقراطي في تونس.
الانحدار نحو المسرح السياسي
تم اعتبار الفوز الأول لسعيّد قبل خمس سنوات حراً ونزيهاً، ولكن اليوم، قِلةمن المراقبين الدوليين يعتبرون تونس ديمقراطية كاملة. وفي عام 2021، وفي مواجهة اضطرابات اجتماعية واسعة النطاق خلال منتصف فترة ولايته الأولى، أقال سعيّد فجأة رئيس الوزراء، وعلّق البرلمان، وتجاوز معظم مواد الدستور لكي يتمكن الحكم بالمراسيم. وفي تموز/يوليو 2022، اعتمدت البلاد دستوراً جديداً في استفتاء شهد نسبة مشاركة منخفضة بشكل ملحوظ (انظر أدناه)، مما عزز بشكل كبير صلاحيات الرئيس وأضعف العديد من الضوابط والتوازنات. ومنذ ذلك الحين، استخدم سعيّد التلاعب القانوني وتكتيكات أخرى لتقييد الحريات الفردية بشكل أكبر، وإسكات المعارضين، وخلق مناخ من الخوف.
وعلى عكس الدورات الانتخابية السابقة، لم يصدر البرلمان مدونة انتخابية للحملة الحالية. وبدلاً من ذلك، أصدرت “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات” – والتي يشرف عليها سعيّد – مراسيم في اللحظة الأخيرة تحدّد شروط الترشح والجدول الانتخابي. وبالنسبة للبعض، كان ذلك يمثل تجاوزاً من “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات”، والالتفاف على سلطة البرلمان، والافتقار المتعمدلشفافية الحكومة.
وبسبب المعايير الصارمة التي وضعتها “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات”، لم يقدّم سوى 17 مرشحاً من بين أكثر من 100 مرشح متوقع وفقاً لبعض التقارير ملف ترشحهم إلى “الهيئة”. ورفعت القواعد الجديدة الحد الأدنى لسن الترشح، ومنعت المواطنين مزدوجي الجنسية من الترشح، وفرضت على المتقدمين تقديم نسخة رسمية من سجلهم الجنائي المعروف باسم B3 – وهو وثيقة من الصعب جداً الحصول عليها. وتم اعتقال ما لا يقل عن اثني عشر مرشحاً آخر بتهم انتقاد الدولة أو التآمر ضدها، أو انتهاك قانون الانتخابات الذي يتطلب رعاية (ضمانات) الناخبين.
تصرفات “الملك المجنون” لسعيّد
مع انتهاء فترة الترشيح، أعلنت “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات” عن قائمة نهائية تضم ثلاثة مرشحين: سعيّد، والعياشي زمال من حركة “عازمون”، وزهير المغزاوي من “حركة الشعب”. وقد نجح ثلاثة مرشحين آخرين في الاستئناف أمام “المحكمة الإدارية” بعد أن رفضت “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات” طلباتهم، وهم: عبد اللطيف المكي (المنتمي سابقاً لـ “حركة النهضة الإسلامية”)، ومنذر الزنايدي (وزير سابق في عهد بن علي)، وعماد الدائمي (من حزب “المؤتمر من أجل الجمهورية” من يسار الوسط). ومع ذلك، رفضت “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات” قبول قرار المحكمة، ودعت إلى تنحية بعض القضاة، وأعلنت نفسها فعلياً الحَكم النهائي بشأن أهلية المرشحين – وهو ما أثار انتقادات واسعة من المجتمع المدني، والأحزاب السياسية، وأعضاء من الأوساط القانونية. وفي الوقت نفسه، تم اعتقال زمال بتهمة تزوير الجهات التي ترعاه وحُكم عليه بالسجن لمدة عشرين شهراً، مما جعل سباق الانتخابات يقتصر على شخصين فقط.
وحتى لو طعن المكي، الزنايدي، الدائمي، وغيرهم من المرشحين المرفوضين في النتائج بعد الانتخابات، فلن يكون لديهم سوى فرص قانونية قليلة في ظل خضوع القضاء لسيطرة سعيّد وازدياد شعوره بجنون العظمة. فبالإضافة إلى تصعيده للتكتيكات القمعية في الأشهر الأخيرة، قام الرئيس بشكل منهجي بإبعاد الأصوات العقلانية المحيطة به، ثم أقال رئيس الوزراء، وأعاد تشكيل الحكومة، واستبدل جميع المحافظين الإقليميين في البلاد.
هل سيصوّت الشعب؟
أجرت تونس ثلاث انتخابات في عهد سعيّد، وجميعها شهدت نسبة مشاركة منخفضة بشكل كبير. ففي تموز/يوليو 2022، شارك أقل من ثلث الناخبين للتصويت على دستور جديد يقوّض ميثاق 2014 ويعزز سلطة سعيّد. وفي كانون الأول/ديسمبر 2022، صوت 11% فقط لانتخاب أعضاء جدد في البرلمان بعد أن حل سعيّد الهيئة التشريعية السابقة، وهي واحدة من أدنى نسب المشاركة في أي انتخابات وطنية في أي دولة في العالم. وتم تكرار هذا الأمر المشكوك فيه في كانون الأول/ديسمبر التالي عندما أمر سعيّد بإجراء انتخابات لمجلس ثان جديد للبرلمان.
ورغم أن المعارضة السياسية في تونس قاطعت الانتخابات السابقة في عهد سعيّد، إلا أنها لم تعلن حتى الآن عن مقاطعة رسمية لانتخابات الشهر المقبل. ومع ذلك، نظراً لعدم توفّر خيارات حقيقية للناخبين وانشغالهم بارتفاع معدلات البطالة والتضخم، فمن غير المرجح أن يتوجه الناس بأعداد كافية لمنح سعيّد تفويضاً قوياً لولايته الثانية الحتمية.
التداعيات السياسية
استثمرت الولايات المتحدة مليارات الدولارات في التحوّل الديمقراطي في تونس، وهي قلقة بشكل متزايد بشأن الاستقرار في تلك البلاد وفي دول أخرى في شمال أفريقيا. كما حافظ صناع القرار الأمريكيون على علاقات وثيقة مع عناصر في الحكومة والجيش التونسيين الذين يمكنهم المساعدة في حث سعيّد على الابتعاد عن سياساته الأكثر إشكالية. وعليه، حتى لو ارتفعت نسبة المشاركة في التصويت الشهر المقبل، يتعين على واشنطن أن تتجنب منح هذه الانتخابات المزوّرة شرعية غير مستحقة من خلال إصدار بيانات تهنئة أو الإشادة بالتقدم الديمقراطي في تونس. وبدلاً من ذلك، ينبغي عليها أن تؤكد علناً وسراً على الآثار السلبية للقمع على الشعب التونسي والعلاقات الخارجية للبلاد.
وعلى المدى الطويل، بإمكان المسؤولين اتخاذ خطوات متعددة للمساعدة في استعادة النمو الاقتصادي والاستقرار والأمن في تونس. أولاً، ينبغي على الحكومة الأمريكية والمنظمات غير الحكومية ذات الصلة الاستمرار في تعزيز العلاقات العملية مع الحكومة التونسية والمجتمع المدني. وعلى الرغم من التغييرات المتكررة والتراجع في عهد سعيّد، إلّا أن البيروقراطية في البلاد تمكنت إلى حد كبير من الاستمرار في العمل، كما أن العديد من منظمات المجتمع المدني استمرت في القيام بدور المراقبين المهمين، والدفاع عن حقوق الإنسان والعودة إلى الديمقراطية. وستحتاج هذه المجموعات إلى المزيد من الدعم المالي والخطابي في ظل الوضع الحالي. ومع استهداف سعيّد المتزايد للمنظمات التونسية التي تتلقى تمويلاً أمريكياً، ينبغي على واشنطن استخدام نفوذها لمنع انكماش المساحة المدنية أكثر من ذلك.
ثانياً، بإمكان الولايات المتحدة اتخاذ خطوات تساعد في استعادة ثقة الشعب التونسي في الطبقة السياسية. ويشمل ذلك العمل مع الناشطين الشباب والبيروقراطيين من المستوى المتوسط الذين يمكنهم لعب أدوار سياسية في المستقبل، مع الإدراك بأن الجيل الحالي من السياسيين قد فقد مصداقيته إلى حد كبير. كما أن برامج التعليم والتبادل أيضاً من شأنها أن تساعد في هذا السياق – حيث يرغب العديد من التونسيين في الحصول على هذه البرامج كوسيلة لتوسيع فرصهم في تعلم اللغة الإنجليزية وتطوير المهارات التي تساعدهم في دخول سوق العمل.
ثالثاً، تتمتع الولايات المتحدة بعلاقة عميقة مع الجيش التونسي، الذي لا يزال يُعتبر الجهة الفاعلة الأكثر ثقة في البلاد. ولذلك، ينبغي على الكونغرس الأمريكي أن يقاوم الميل إلى قطع التمويل عن تونس. وبدلاً من ذلك، عليه أن يستمر في الضغط من أجل التدريب الذي لا يحافظ فقط على أمن تونس والمنطقة الأوسع نطاقاً، بل ويساعد أيضاً في ضمان قدرة الجيش على العمل كحاجز (في حماية البلاد) إذا ما تحققت المخاوف بشأن العنف الانتخابي.
رابعاً، يجب على الولايات المتحدة العمل مع الزعيمين الأجنبيين اللذين يحظيان باهتمام سعيّد: الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ورئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني. وقد نمت علاقة واشنطن مع الجزائر خلال السنوات القليلة الماضية، وأبدت الجزائر اهتماماً متزايداً بالتعاون مع الأمريكيين على مستوى الشعب. يجب على المسؤولين الأمريكيين الاستفادة من هذا التحسن، وذلك جزئياً لتعزيز تواصلهم مع الشعبين الجزائري والتونسي، ولكن أيضاً لتشجيع الجزائر بهدوء على استخدام نفوذها مع سعيّد. وعلى وجه الخصوص، بإمكان تبون أن يذكّر الرئيس التونسي بأن الحفاظ على الاستقرار أمر بالغ الأهمية، وخاصة في وقت تزايدت فيه الاحتجاجات ضده.
أما بالنسبة لميلوني، فقد أصبحت الصوت الفعلي لأوروبا في تونس، حيث قادت المفاوضات بشأن العديد من حزم المساعدات والاتفاقيات المتعلقة بالهجرة مع سعيّد. ينبغي على واشنطن أن تحث روما والشركاء الأوروبيين الآخرين على المساعدة في الحد من المزيد من التراجع الاستبدادي في تونس من خلال تشجيع سعيّد على تنفيذ إصلاحات اقتصادية حيوية. ويمكن أن تفيد هذه التدابير بلاده وأوروبا على حد سواء، وذلك جزئياً من خلال معالجة بعض الأسباب الجذرية للهجرة عبر تونس ومنها.
سابينا هينبرغ هي “زميلة سوريف” في معهد واشنطن. سارة يركسهي زميلة أقدم في “برنامج الشرق الأوسط” التابع لـ “مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي”. وقد ألّفتا معاً الدراسة التي أصدرها المعهد مؤخراً تحت عنوان “تجنب خطأ الانتخابات في تونس”.